كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى- عليه السلام- وحقيقة ما جاء به؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده:
{ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}.
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم. وقال لقومه: {قد جئتكم بالحكمة}. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور. وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه. وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى- عليه السلام- وانقسموا فرقًا وشيعًا. ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله. وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض: {إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه}.. ولم يقل:إنه إله، ولم يقل:إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد.
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}.
إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع. وقال لهم:إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج، ولا زلل فيه ولا ضلال. ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزابًا كما كان الذين من قبله مختلفين أحزابًا. اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة: {فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}.
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل؛ وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان؛ وقد طال انتظارهم له، فلما جاءهم نكروه وشاقوه، وهموا أن يصلبوه!
ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعًا ونحلا كثيرة، أهمها أربع فرق أو طوائف.
طائفة الصدوقيين نسبة إلى (صدوق) وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان. وحسب الشريعة لابد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى. فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل. وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها، ينكرون (البدع) في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة؛ ولا يعترفون بان هناك قيامة!
وطائفة الفريسيين، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين. ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات، وجحدهم للبعث والحساب. والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة. وكان المسيح- عليه السلام- ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان!
وطائفة السامريين، وكانوا خليطًا من اليهود والأشوريين، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة، مما يعتقد غيرهم بقداسته.
وطائفة الآسين أو الأسينيين. وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم.
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع.
فلما أن جاء المسيح- عليه السلام- بالتوحيد الذي أعلنه: {إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه}. وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس.
ومما يؤثر عنه- عليه السلام- في هذا قوله عن هؤلاء:(إنهم يحزمون الأوقار، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها إصبعًا يزحزحونها، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم! يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق. وأن يقال لهم:سيدي. سيدي. حيث يذهبون!).
أو يخاطب هؤلاء فيقول:(أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل.. إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. إنكم كالقبور المبيضة. خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة).
وإن الإنسان- وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح- عليه السلام- وغيرها في بابها- ليكاد يتصوررجال الدين المحترفين في زماننا هذا. فهو طابع واحد مكرر. لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين، الذين يراهم الناس في كل حين!
ثم ذهب المسيح عليه السلام إلى ربه، فاختلف أتباعه من بعده. اختلفوا شيعًا وأحزابًا. بعضها يؤلهه. وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته. وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم. وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام. وضاعت دعوته الناس ليلجأوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين.
{فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}.
ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى- عليه السلام- بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده، وما أحدثته حوله من أساطير!
الدرس الثاني:66- 77 قيام الساعة وعداوة الأخلاء الفاسدين ونعيم المؤمنين وعذاب الكافرين.
وحين يصل السياق إلى الحديث عن الظالمين، يدمج المختلفين من الأحزاب بعد عيسى- عليه السلام- مع المحاجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل هذه الأحزاب؛ ويصور حالهم يوم القيامة في مشهد رائع طويل، يحتوي كذلك صفحة المتقين المكرمين في جنات النعيم: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}.
يبدأ المشهد بوقوع الساعة فجأة وهم غافلون عنها، لا يشعرون بمقدمها:
{هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}!
هذه المفاجأة تحدث حدثًا غريبًا، يقلب كل ما كانوا يألفونه في الحياة الدنيا:
{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.
وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم.. لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر، ويملي بعضهم لبعض في الضلال. فاليوم يتلاومون. واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر. واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون، من حيث كانوا أخلاء يتناجون! {إلا المتقين}.. فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى، وتناصحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة.
وبينما الأخلاء يتلاحون ويختصمون، يتجاوب الوجود كله بالنداء العلوي الكريم للمتقين:
{يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}.
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قال إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} أي تسرون سرورًا يشيع في أعطافكم وقسماتكم فيبدو عليكم الحبور.
ثم نشهد- بعين الخيال- فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم. وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس. وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون، كمالًا وجمالًا في التكريم:
{يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}.
ومع هذا النعيم. ما هو أكبر منه وأفضل. التكريم بالخطاب من العلي الكريم:
{وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون؟
{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}.
وهو عذاب دائم، وفي درجة شديدة عصيبة. لا يفتر لحظة، ولا يبرد هنيهة. ولا تلوح لهم فيه بارقة من أمل في الخلاص، ولا كوة من رجاء بعيد. فهم فيه يائسون قانطون:
{لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون}.
كذلك فعلوا بأنفسهم، وأوردوها هذا المورد الموبق، ظالمين غير مظلومين:
{وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}.
ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد. صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق:
(ونادوا:يا مالك. ليقض علينا ربك).
إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق. من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم. إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين. إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث. فهم مبلسون يائسون. إنما يصيحون في طلب الهلاك. الهلاك السريع الذي يريح.. وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا!.. وإن هذا النداء ليلقي ظلًا كثيفًا للكرب والضيق. وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوسًا أطار صوابها العذاب، وأجسامًا تجاوز الألم بها حد الطاقة، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة: {يا مالك ليقض علينا ربك}!
ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل، وبلا رعاية ولا اهتمام:
{قال إنكم ماكثون}!
فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء.. إنكم ما كثون!
الدرس الثالث:78- 80 تقريع الكفار لجرائمهم تجاه الحق وأهله.
وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق، المعرضين عن الهدى، الصائرين إلى هذا المصير؛ ويعجب من أمرهم على رءوس الأشهاد، في أنسب جو للتحذير والتعجيب.
{لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرًا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}.
وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه الحق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم؛ فما عهدوا عليه كذبًا قط على الناس، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟
والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق، ولكنهم يكرهونه، لأنه يصادم أهواءهم، ويقف.
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}.
في طريق شهواتهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة!
لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت، العليم بما يسرون وما يمكرون:
أم أبرموا أمرًا؟ فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون.
فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته. وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى. والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون، أمام الخالق العزيز العليم.
الدرس الرابع:81- 83 لا شريك مع الله وتهديد الكفار:
ويتركهم بعد هذا التهديد المرهوب، ويوجه رسوله الكريم، إلى قول يقوله لهم. ثم يدعهم من بعده لمصيرهم الذي شهدوا صورته منذ قليل:
{قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون}.
لقد كانوا يعبدون الملائكة بزعم أنهم بنات الله. ولو كان لله ولد لكان أحق أحد بعبادته، وبمعرفة ذلك، نبي الله ورسوله، فهو منه قريب، وهو أسرع إلى طاعة الله وعبادته، وتوقير ولده إن كان له ولد كما يزعمون! ولكنه لا يعبد إلا الله. فهذا في ذاته دليل على أن ما يزعمونه من بنوة أحد لله لا أصل له، ولا سند ولا دليل! تنزه الله وتعالى عن ذلك الزعم الغريب!
{سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون}.
وحين يتأمل الإنسان هذه السماوات والأرض، ونظامها، وتناسقها، ومدى ما يكمن وراء هذا النظام من عظمة وعلو. ومن سيطرة واستعلاء. يشير إلى هذا كله قوله: {رب العرش}.. يصغر في نفسه كل وهم وكل زعم من ذلك القبيل. ويدرك بفطرته أن صانع هذا كله لا يستقيم في الفطرة أن يكون له شبه- اي شبه- بالخلق. الذين يلدون وينسلون! ومن ثم يبدو مثل ذلك القول لهوًا ولعبًا وخوضًا وتقحمًا لا يستحق شيء منه المناقشة والجدل؛ إنما يستحق الإهمال أو التحذير:
{فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون}.
والذي شهدوا صورة منه يوم يكون!
الدرس الخامس:84 ألوهية الله وملكيته للسماوات والأرض:
ثم يمضي- بعد الإعراض عنهم وإهمالهم- في تمجيد الخالق وتوحيده بما يليق بربوبيته للسماوات والأرض والعرش العظيم:
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}.